فصل: فصلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.فصلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ:

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ: نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ)، وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ كَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِ، (وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ) إلَّا أَنَّهُ عَامٌّ، (وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ) وَهُوَ خَاصٌّ وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشَّفَةِ بِهِ وَعَدَمُهُ.
فَالْأَوَّلُ: كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَوَّلَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، إذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ عَلَى كَرْيِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ، وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ، وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِي وَفَسَادِ الطَّرَفِ يُجْبَرُ الْآبِي وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ بِخِلَافِ الْكَرْيِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الْخَاصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ قِيلَ: يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي، وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْآبِي بِمَا اتَّفَقُوا فِيهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَلَا يُجْبَرُ لِحَقِّ الشَّفَةِ كَمَا إذَا امْتَنَعُوا جَمِيعًا وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ رُفِعَ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: هِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشُّرْبِ وَالْأَرْضِينَ، لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي الْأَسْفَلِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ، وَلَهُ: أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى، فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْمَسِيلِ عِمَارَتُهُ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ مَسِيلٌ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ كَيْفَ وَأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ بِسَدِّهِ مِنْ أَعْلَاهُ إنَّمَا يُرْفَعُ عَنْهُ إذَا جَاوَزَ أَرْضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ: إذَا جَاوَزَ فُوَّهَةَ نَهْرِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ: لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّخَاذِ الْفُوَّهَةِ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَهُ حَتَّى سَقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَتُهُ، قِيلَ: لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءَ لِيَسْقِيَ أَرْضَهُ لِانْتِهَاءِ الْكَرْيِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ نَفْيًا لِاخْتِصَاصِهِ وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنْ الْكَرْيِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ.
الشرح:
فصلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ:
قَوْلُهُ: عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ.
قُلْت: غَرِيبٌ.

.فصلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ:

قَالَ: (وَتَصِحُّ دَعْوَى الشُّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا)، لِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ وَيَبْقَى الشُّرْبُ لَهُ وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ لَا يَجْرِيَ النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ)، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا، فَيَقْضِيَ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ وَعَلَى هَذَا: الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى فِي دَارِ غَيْرِهِ فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا نَظِيرُهُ فِي الشُّرْبِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ كَانَ الشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ)، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّطَرُّقُ، وَهُوَ فِي الدَّارِ الْوَاسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ حَتَّى يُسَكِّرَ النَّهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يُسَكِّرَ الْأَعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ، أَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَكِّرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ لَا يُسَكِّرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ إلَّا بِرِضَا أَصْحَابِهِ، لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ وَشَغْلَ مَوْضِعٍ مُشْتَرَكٍ بِالْبِنَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَحًى لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ وَلَا بِالْمَاءِ وَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضِ صَاحِبِهَا، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَمَعْنَى الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَسْرِ ضِفَّتِهِ وَبِالْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ سُنَّتِهِ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ، وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى وَلَا يَتَّخِذُ عَلَيْهِ جِسْرًا وَلَا قَنْطَرَةً بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ نَهْرٌ خَاصٌّ يَأْخُذُ مِنْ نَهْرٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مُقَنْطِرًا مُسْتَوْثِقًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ، وَلَا يَزِيدَ ذَلِكَ فِي أَخْذِ الْمَاءِ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَضْعًا وَرَفْعًا وَلَا ضَرَرَ بِالشُّرَكَاءِ يَأْخُذُ زِيَادَةَ الْمَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ، لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي أَخْذِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ فَمِ النَّهْرِ، فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ لِاحْتِبَاسِ الْمَاءِ فِيهِ فَيَزْدَادُ دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسَفِّلَ كُوَاهُ أَوْ يَرْفَعَهَا حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكَوَّةِ وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّسَفُّلِ وَالتَّرَفُّعِ وَهُوَ الْعَادَةُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرُ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ وَقَعَتْ بِالْكُوَى فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقَسِّمَ بِالْأَيَّامِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كُوًى مُسَمَّاةٌ فِي نَهْرٍ خَاصٍّ، لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِهِ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ خَاصَّةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَشُقَّ نَهْرًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْكُوَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسُوقَ شُرْبَهُ إلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ شُرْبٌ)، لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ.
قَالَ: (وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شُرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى)، لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تُسْقَى الْأُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يَفْتَحُهَا فِي هَذَا الطَّرِيقِ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَعْلَى مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ وَفِيهِ كُوًى بَيْنَهُمَا أَنْ يَسُدَّ بَعْضَهَا دَفْعًا لِفَيْضِ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا تَنِزَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْكُوَى تَقَدَّمَتْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَبَعْدَ التَّرَاضِي لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ، وَكَذَا لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، لِأَنَّهُ إعَارَةُ الشُّرْبِ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلَةٌ وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْعُقُودُ، إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ، أَوْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعُقُودُ فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاطِلِ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا فِي الْخُلْعِ حَتَّى يَجِبَ رَدُّ مَا قَبَضَتْ مِنْ الصَّدَاقِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ وَلَا يَصْلُحُ بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الدَّعْوَى، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، وَلَا يُبَاعُ الشُّرْبُ فِي دَيْنِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ أَرْضٍ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ الْإِمَامُ؟ الْأَصَحُّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى أَرْضٍ لَا شِرْبَ لَهَا فَيَبِيعَهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا ثُمَّ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَعَ الشِّرْبِ وَبِدُونِهِ فَيَصْرِفَ التَّفَاوُتَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ، ثُمَّ ضَمَّ الشِّرْبَ إلَيْهَا وَبَاعَهُمَا فَيَصْرِفُ مِنْ الثَّمَنِ إلَى ثَمَنِ الْأَرْضِ وَيَصْرِفُ الْفَاضِلَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ (وَإِذَا سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ مَخَرَهَا مَاءً) أَيْ مَلَأَهَا (فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا أَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا)، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ:

سُمِّيَ بِهَا، وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا.
قَالَ: (وَالْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: الْخَمْرُ وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَالْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ ثُلُثَيْهِ) وَهُوَ الطِّلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السُّكْرُ، وَنَقْعُ الزَّبِيبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى) أَمَّا الْخَمْرُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ.
أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ مَائِيَّتِهَا وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا وَهَذَا عِنْدَنَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» ` وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ»، وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ، وَلَنَا: أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِهَذَا اُشْتُهِرَ اسْتِعْمَالٌ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا ظَنِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ، لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ النُّجُومِ وَهُوَ الظُّهُورُ، ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ، لَا لِكُلِّ مَا ظَهَرَ، وَهَذَا كَثِيرُ النَّظِيرِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشرح:
كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، انْتَهَى.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ: «وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ».
وَكَذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي أَوَّلِ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ كَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، لَكِنَّهُ عَلَى الظَّنِّ، وَلَفْظُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ»، انْتَهَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ طَعَنَ فِي ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: مِنْهَا هَذَا، وَحَدِيثُ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ»، وَحَدِيثُ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ»، وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ لَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتِبَ الْحَدِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ، وَالْعِنَبَةِ»، قُلْت.
أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ، وَالْعِنَبَةِ»، انْتَهَى.
وفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «الْكَرْمَةُ وَالنَّخْلَةُ»، وَوَهَمَ شَيْخُنَا عَلَاءُ الدِّينِ، فَعَزَاهُ لِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَقَلَّدَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ، فَالْمُقَلَّدُ ذَهِلَ، وَالْمُقَلِّدُ جَهِلَ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ لِلْقَائِلِ بِأَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، سَتَأْتِي قَرِيبًا فِي أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ».
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ: «كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، وَمَا شَرَابُهُمْ إلَّا الْفَضِيخُ: الْبُسْرُ، وَالتَّمْرُ»، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَمِنْهَا قَوْلُ عُمَرَ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ، فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الظُّهُورِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَلَبَةِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، فَقَدْ غَلَبَ عَلَى الَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ يَعْنِي بِهِ مَاءَ الْعِنَبِ فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ بِاسْمِ الْخَمْرِ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهُ خَمْرًا. انْتَهَى.
وهَذِهِ مُصَادَمَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيذِ، فَقَالَتْ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ الْخَمْرَ لِاسْمِهَا، وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا لِعَاقِبَتِهَا، فَكُلُّ شَرَابٍ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ كَعَاقِبَةِ الْخَمْرِ، فَهُوَ حَرَامٌ، كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، انْتَهَى.
وَفِيهِ مَجْهُولٌ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ، مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ، فَهُوَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِعِلْمِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ عَلَيْنَا حِينَ حُرِّمَتْ، وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلًا، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، انْتَهَى.
فَهَذَا اللَّفْظُ يُوَضِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْقِلَّةُ لَا الْعَدَمُ، وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ، إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ، وَالثَّانِي: فِي حَقِّ ثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا إذَا اشْتَدَّ صَارَ خَمْرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ، وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ وَكَمَالُهَا بِقَذْفِ الزَّبَدِ وَسُكُوتِهِ، إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصَّافِي مِنْ الْكَدِرِ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ الْمُسْتَحِلِّ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ احْتِيَاطًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ عَيْنِهَا وَقَالَ: إنَّ السُّكْرَ مِنْهَا حَرَامٌ، لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَسَادُ وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَهَذَا كُفْرٌ، لِأَنَّهُ جُحُودُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا، وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ وَلِهَذَا تَزْدَادُ لِشَارِبِهِ اللَّذَّةُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ، ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَدِّيهِ إلَيْهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَعْلِيلُهُ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَسْمَاءِ.
الشرح:
قَوْلُهُ: وَقَدْ جَاءَتْ السَّنَةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
قُلْت: الْأَحَادِيثُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَا شَرَابُهُمْ إلَّا الْفَضِيخُ: الْبُسْرُ، وَالتَّمْرُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي، فَقَالَ: اُخْرُجْ، فَانْظُرْ، فَخَرَجْتُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اُخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا»، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّقَصِّي: هَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَهُ، مِمَّا شُوهِدَ فِيهِ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى.
وفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» ذَكَرَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ، قَالَ: «سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ، أَوْ مِنْ دَوْسٍ، فَلَقِيَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِرَاوِيَةِ خَمْرٍ يُهْدِيهَا إلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا فُلَانُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلَامِهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا فُلَانُ بِمَاذَا أَمَرْتَهُ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَأُفْرِغَتْ فِي الْبَطْحَاءِ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ، وَالْكُوبَةَ، وَالْغُبَيْرَاءَ».
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهَا زِقَاقُ الْخَمْرِ، فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الزِّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ، ثُمَّ أَعْطَانِيهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي، وَيُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْأَسْوَاقَ كُلَّهَا، فَلَا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إلَّا شَقَقْتُهُ، فَفَعَلْتُ، فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إلَّا شَقَقْتُهُ»، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِقِصَّةٍ فِيهِ، وَقَالَ فِيهِ: «ثُمَّ دَعَا بِسِكِّينٍ، فَقَالَ: اشْحَذُوهَا، فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ فَخَرَّقَ بِهَا الزِّقَاقَ، فَقَالَ النَّاسُ: فِي هَذِهِ الزِّقَاقِ مَنْفَعَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنِّي إنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ غَضَبًا لِلَّهِ، لِمَا فِيهَا مِنْ سَخَطِهِ»، وَبَقِيَّةُ السَّنَدِ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِهِ ذَمُّ الْمُسْكِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّمَرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلَا قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ، وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ جَارِيَتَهَا، فَقَالَتْ: إنَّا نَدْعُوَك لِشَهَادَةٍ، فَدَخَلَ مَعَهَا، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهَا، حَتَّى أَفْضَى إلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ، عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إنِّي وَاَللَّهِ مَا دَعَوْتُك لِشَهَادَةٍ، وَلَكِنْ دَعَوْتُك لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَشْرَبَ هَذَا الْخَمْرَ، فَسَقَتْهُ كَأْسًا، فَقَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَالْإِيمَانُ أَبَدًا إلَّا أَوْشَكَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ» انْتَهَى.
وهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى عُثْمَانَ، وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَحْمِلُ الْخَمْرَ مِنْ خَيْبَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَيَبِيعُهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَحَمَلَ مِنْهَا بِمَالٍ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَوَضَعَهَا حَيْثُ انْتَهَى عَلَى تَلٍّ، وَسَجَّاهَا بِأَكْسِيَةٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: هَلْ لِي أَنْ أَرُدَّهَا عَلَى مَنْ ابْتَعْتُهَا مِنْهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَأُهْدِيهَا إلَى مَنْ يُكَافِئُنِي مِنْهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنَّ فِيهَا مَالًا لِيَتَامَى فِي حِجْرِي، قَالَ: إذَا أَتَانَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ فَأْتِنَا، نُعَوِّضُ أَيْتَامَك مِنْ مَالِهِمْ، ثُمَّ نَادَى بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْأَوْعِيَةُ يُنْتَفَعُ بِهَا؟ قَالَ: فَحَلُّوا أَوْكِيَتَهَا، فَانْصَبَّتْ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ فِي بَطْنِ الْوَادِي»، انْتَهَى.
وَبَقِيَّةُ السَّنَدِ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكُوفِيُّ ثَنَا يَعْقُوبُ الْعَمِّيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: حَدِيثُ: لُعِنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةٌ، تَقَدَّمَ فِي الْكَرَاهِيَةِ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُدْمِنُ خَمْرٍ كَعَابِدِ وَثَنٍ»، انْتَهَى.
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ خَبَّابُ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إيَّاكَ وَالْخَمْرَ، فَإِنَّ خَطِيئَتَهَا تُفَرِّعُ الْخَطَايَا، كَمَا أَنَّ شَجَرَتَهَا تُفَرِّعُ الشَّجَرَ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ لَمْ يَتُبْ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ، قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَمَا نَهْرُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: نَهْرٌ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ»، انْتَهَى.
وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ نَحْوُهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: وَالشَّافِعِيُّ يُعَدِّيهِ إلَيْهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ.
قُلْت: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى حَدِيثِ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِإِنْكَارِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ.
وَالسَّادِسُ: سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا وَغَاصِبُهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَجَّسَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا» وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَالٌ، لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى مُسْلِمٍ دَيْنٌ فَأَوْفَاهُ ثَمَنَ خَمْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا لِلْمَدْيُونِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، لِأَنَّهُ ثَمَنُ بَيْعٍ بَاطِلٍ وَهُوَ غَصْبٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَمَانَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَيْتَةِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى ذِمِّيٍّ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْلِمُ الطَّالِبُ يَسْتَوْفِيهِ، لِأَنَّ بَيْعَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ جَائِزٌ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، وَأَكْلَ ثَمَنِهَا».
قُلْت: تَقَدَّمَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ مِنْ الْبُيُوعِ.
وَالسَّابِعُ: حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ، وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ اقْتِرَابٌ.
وَالثَّامِنُ: أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ قَدْ انْتَسَخَ فَبَقِيَ الْجَلْدُ مَشْرُوعًا، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتَقْدِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ».
قُلْت: تَقَدَّمَ فِي الْحُدُودِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَعْنِي الْجَلْدَ.
وَالتَّاسِعُ: أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا، لِأَنَّ الْحَدَّ بِالْقَلِيلِ فِي النِّيءِ خَاصَّةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا قَدْ طُبِخَ.
وَالْعَاشِرُ: جَوَازُ تَخْلِيلِهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْخَمْرِ.
وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَيْ طَبْخَةٍ، وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ وَالْمُنَصَّفَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ، فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ، وَلَنَا أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ، وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ الْمُسْكِرُ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ أَيْ الرُّطَبِ فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ.
وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا» اُمْتُنَّ عَلَيْنَا بِهِ وَهُوَ بِالْمُحَرَّمِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ إذَا كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً كُلُّهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا.
وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ: وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ فَهُوَ حَرَامٌ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ الَّتِي لَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا وَيُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ، لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يُسْكِرَ، وَيَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَلِيظَةٌ فِي أُخْرَى وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا فِيهِمَا، لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَمَا شَهِدَتْ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ بِسُقُوطِ تَقَوُّمِهَا، بِخِلَافِ الْخَمْرِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ يَجِبُ قِيمَتُهَا لَا مِثْلُهَا عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ دُونَ الثُّلُثَيْنِ.
الشرح:
قَوْلُهُ: وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَعْنِي عَلَى تَحْرِيمِ السَّكَرِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ.
قُلْت: رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: اشْتَكَى رَجُلٌ مِنَّا بَطْنَهُ، فَنَعَتَ لَهُ السَّكَرَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْعَلَ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. انْتَهَى.
أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، وَزَادَ: قَالَ مَعْمَرٌ: وَالسَّكَرُ يَكُونُ مِنْ التَّمْرِ. انْتَهَى.
ومِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِالسَّنَدِ الْأَوَّلِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: السَّكَرُ خَمْرٌ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ حَرْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ السَّكَرِ، فَقَالَ: الْخَمْرُ. انْتَهَى.
وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي الْهُذَيْلِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُكْسَرَ دِنَانُهُ، حِينَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، لَمِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، انْتَهَى.
قَوْلُهُ: وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يُنَقَّى بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ، فَهُوَ حَرَامٌ.
قُلْت: غَرِيبٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَالِكٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: النَّبِيذُ الَّذِي بَلَغَ فَسَدَ، وَأَمَّا مَا ازْدَادَ عَلَى طُولِ التَّرْكِ جَوْدَةً، فَلَا خَيْرَ فِيهِ. انْتَهَى.
وأُخْرِجَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
قَوْلُهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ، قَالَ: سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ شَرْبَةً مَا كِدْتُ أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي، فَغَدَوْتُ إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ.
قُلْت: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ أَخْبَرْنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ أَفْطَرَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَسَقَاهُ شَرَابًا، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الشَّرَابُ؟ مَا كِدْتُ أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ انْتَهَى.
قَوْلُهُ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْهُ.
قُلْت: غَرِيبٌ.
(وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) قَالُوا: هَذَا الْجَوَابُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْبَيَانُ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ عِنْدَهُ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَرَامٌ وَيُحَدُّ شَارِبُهُ إذَا سَكِرَ مِنْهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا سَكِرَ مِنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ (وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَا يَبْلُغُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَبْلُغُ: يَغْلِي وَيَشْتَدُّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا يَفْسُدُ: لَا يَحْمُضُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ بَقَاءَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْمُضَ دَلَالَةُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ الشِّدَّةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا يَحْرُمُ أَصْلُ شُرْبِهِ، وَفِيمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَمْ يُحَرِّمْ كُلَّ مُسْكِرٍ وَرَجَعَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا.
(وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ) وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شَرِبَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُسْكِرُهُ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَلَا طَرَبٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَرَامٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ، وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرْبَةً مَا كِدْتُ أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي فَغَدَوْتُ إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ وَكَانَ مَطْبُوخًا، لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَهِيَ النِّيءُ مِنْهُ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ» مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ، وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ».
قُلْت: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَبَاقِي السِّتَّةِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الزَّبِيبُ، وَالتَّمْرُ جَمِيعًا، وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ خَلِيطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَعَنْ خَلِيطِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالتَّمْرِ، وَقَالَ: انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ»، انْتَهَى.
وَفِي لَفْظٍ فِيهِ لِمُسْلِمٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: لَا تَنْبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلَا تَنْبِذُوا الرُّطَبَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا، وَلَكِنْ انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ»، انْتَهَى.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ فِيهِ الرُّطَبَ، وَلَا الْبُسْرَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَالْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، وَقَالَ: يُنْبَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ»، انْتَهَى.
وأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا، وَأَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالْبُسْرُ جَمِيعًا» انْتَهَى.
وأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا»، انْتَهَى.
وأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَخْلِطَ بُسْرًا بِتَمْرٍ، أَوْ زَبِيبًا بِتَمْرٍ، أَوْ زَبِيبًا بِبُسْرٍ، وَقَالَ: مَنْ شَرِبَ مِنْكُمْ النَّبِيذَ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا، أَوْ تَمْرًا فَرْدًا، أَوْ بُسْرًا فَرْدًا»، انْتَهَى.
قَوْلُهُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْنِي النَّهْيَ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
قُلْت: الْمُرَادُ بِالشِّدَّةِ هُنَا الْقَحْطُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِنَبِيذِ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَإِنَّمَا كُرِهَا لِشِدَّةِ الْعَيْشِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، كَمَا كُرِهَ السَّمْنُ وَاللَّحْمُ، وَكَمَا كُرِهَ الْإِقْرَانُ، فَأَمَّا إذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. انْتَهَى.
وأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ عُمَرَ بْنِ رُدَيْحٍ ثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ: عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ «أَنَّهُمَا كَانَا يَشْرَبَانِ نَبِيذَ الزَّبِيبِ، وَالْبُسْرِ يَخْلِطَانِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا طَلْحَةَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا، قَالَ: إنَّمَا نَهَى عَنْ الْعَوَزِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا نَهَى عَنْ الْإِقْرَانِ»، انْتَهَى.
وأَعَلَّهُ بِعُمَرَ بْنِ رُدَيْحٍ.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي بَحْرٍ، عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَكْرَاوِيِّ عَنْ عَتَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: «حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ بِنْتُ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلْنَاهَا عَنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ آخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ، وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ، فَأُلْقِيه فِي إنَاءٍ، فَأَمْرُسُهُ، ثُمَّ أَسْقِيه النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، انْتَهَى.
والْبَكْرَاوِيُّ فِيهِ مَقَالٌ.
قَالَ: (وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَبِيذُ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ، خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ ثُمَّ قِيلَ: يُشْتَرَطُ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ؟ قِيلَ: لَا يُحَدُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ.
قَالُوا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهَذَا، لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْبَانِ إذَا اشْتَدَّ فَهُوَ عَلَى هَذَا، وَقِيلَ: إنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهِ إذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ قَالُوا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ، لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لِمَا فِي إبَاحَتِهِ مِنْ قَطْعِ مَادَّةِ الْجِهَادِ أَوْ لِاحْتِرَامِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى لَبَنِهِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ»، تَقَدَّمَا أَوَّلَ الْبَابِ قَالَ: (وَعَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: حَرَامٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي: أَمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّلَهِّيَ فَلَا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ، لَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَيُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أَسْكَرَ الْجَرَّةُ مِنْهُ فَالْجَرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ» وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْخَمْرِ وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» وَيُرْوَى «بِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» خَصَّ السُّكْرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ، فَأُعْطِيَ حُكْمَهُ وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ، إذْ هُوَ الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً، وَاَلَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَرِقَّ، ثُمَّ يُطْبَخَ طَبْخَةً حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ، لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا ضَعْفًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ، ثُمَّ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْكُلِّ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا، فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ، وَلَوْ طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ ثُمَّ يُعْصَرُ يُكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ الْعَصِيرَ قَائِمٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ، فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَوْ جَمَعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ، حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّ التَّمْرَ إنْ كَانَ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، فَيُعْتَبَرَ جَانِبُ الْعِنَبِ احْتِيَاطًا، وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَصْرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ طُبِخَ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ، ثُمَّ أُنْقِعَ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ، إنْ كَانَ مَا أُنْقِعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ كَمَا إذَا صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ النَّقِيعِ، وَالْمَعْنَى تَغْلِيبُ جِهَةِ الْحُرْمَةِ وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ لِلْحَدِّ فِي دَرْئِهِ وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ».
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ خَوَّاتُ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
فَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، انْتَهَى.
ورَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَمْرٍو بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ دَاوُد بْنِ بَكْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، نَحْوُهُ سَوَاءٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ التَّاسِعِ وَالتِّسْعِينَ، مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهِ، وَدَاوُد بْنُ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، لَيْسَ بِالْمَتِينِ، انْتَهَى.
وَقَدْ تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدٍ: فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيِّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي أَوَّلِ الْقِسْمِ الثَّانِي.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَجْوَدُ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ سَعْدٍ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِمَا الشَّيْخَانِ، انْتَهَى.
قَالَ النَّسَائِيُّ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ السَّكَرِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُخَادِعُونَ بِتَحْرِيمِهِمْ آخِرَ الشَّرْبَةِ، دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا، إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ السُّكْرَ بِكُلِّيَّتِهِ لَا يَحْدُثُ عَنْ الشَّرْبَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، انْتَهَى.
وَعِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ آبَائِهِ تَرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ: فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ»، وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ السَّابِعِ وَالسِّتِّينَ، مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ.
رِجَالُهُ كُلُّهُمْ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ إلَّا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، لَمْ أَجِدْ لِأَحَدٍ فِيهِ كَلَامًا. انْتَهَى.
قُلْت: قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَأَبُو عُثْمَانُ هَذَا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ فَقَالَ: وَثَّقَهُ أَبُو دَاوُد، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، انْتَهَى.
وأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَدِيدَةٍ، أَضْرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا، لِأَنَّهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، انْتَهَى.
ورَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيّ ثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ ثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ فِي الْوَسَطِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ بِهِ.
أَمَّا حَدِيثُ خَوَّاتُ بْنِ جُبَيْرٍ: فَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي: الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتُ بْنِ جُبَيْرٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ خَوَّاتُ بْنِ جُبَيْرٍ مَرْفُوعًا، نَحْوَهُ سَوَاءً، وَسَكَتَ عَنْهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ.
وَالْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ، وَأَعَلَّهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ هَذَا، وَقَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْسٍ الْمَرْوَزِيِّ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا، نَحْوَهُ سَوَاءً.
قَوْلُهُ: وَيُرْوَى: «مَا أَسْكَرَ الْجَرَّةُ مِنْهُ، فَالْجَرْعَةُ حَرَامٌ».
قُلْت: هَذِهِ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «مَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ، فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ»، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ، فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ.
قَوْلُهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ.
قُلْت: أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ ثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي «قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» قَالَ: هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي أَسْكَرَتْك، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَوْلُهُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، قَالَ: هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي أَسْكَرَتْك، قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ الْحَجَّاجِ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ، وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ ضَعِيفٌ، وَحَجَّاجٌ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي أَسْكَرَتْك»، فَقَالَ: حَدِيثٌ بَاطِلٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: هَذَا إنَّمَا يَرْوِيهِ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَهُوَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: حَدِيثٌ بَاطِلٌ، قَالَ: وَسَبَبُهُ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، فَأَسْنَدَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيِّ: لَمَّا قَدِمَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْكُوفَةَ، فَذَكَرَ قِصَّةً رَوَاهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ عَمْرٍو عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا سَكِرَ مِنْ شَرَابٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعُودَ فِيهِ أَبَدًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَكَيْفَ يَكُونُ عِنْدَ إبْرَاهِيمَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَكَذَا، ثُمَّ يُخَالِفُهُ؟ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَيُرْوَى بِعَيْنِهَا، قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ».
قُلْت: رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُرَاتِ الْكُوفِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ اسْتَنَدَ إلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ مَكَّةَ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَرْبَةٍ؟ فَأُتِيَ بِقَعْبٍ مِنْ نَبِيذٍ، فَذَاقَهُ، فَقَطَّبَ، وَرَدَّهُ، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ آلِ حَاطِبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا شَرَابُ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ شَرِبَ، ثُمَّ قَالَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ»، انْتَهَى.
وأَعَلَّهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَنُقِلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَنُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وأَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ الْغَطَفَانِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَشْرِبَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ»، انْتَهَى.
قَالَ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا مَجْهُولٌ فِي الرِّوَايَةِ وَالنَّسَبِ، وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. انْتَهَى.
وأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ»،انْتَهَى.
قَالَ النَّسَائِيُّ: وَابْنُ شُبْرُمَةَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ شَدَّادٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ هُشَيْمِ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ، حَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ. انْتَهَى.
وقَالَ: هُشَيْمِ بْنُ بَشِيرٍ كَانَ يُدَلِّسُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ السَّمَاعِ مِنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، وَفِي لَفْظٍ: وَمَا أَسْكَرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، وَقَالَ: هَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شُبْرُمَةَ. انْتَهَى.
ورَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ ثَنَا هُشَيْمِ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، قَالَ الْبَزَّارُ: وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ، مِسْعَرٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَّا هُشَيْمِ، وَلَا عَنْ هُشَيْمِ إلَّا أَبُو سُفْيَانَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ وَكَانَ وَاسِطِيًّا ثِقَةً حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَبُو طَالِبٍ الطَّائِيُّ ثَنَا أَبُو دَاوُد ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، فَذَكَرَهُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَشُعْبَةُ يَقُولُ: وَالْمُسْكِرُ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي عَوْنٍ، فَاقْتَصَرْنَا عَلَى رِوَايَةِ مِسْعَرٍ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مِسْعَرٍ حَدِيثًا مُسْنَدًا إلَّا هَذَا الْحَدِيثَ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، الْقَلِيلُ مِنْهَا وَالْكَثِيرُ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ. انْتَهَى.
وأَخْرَجَهُ عَنْ سَعِيدِ بْن الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ مِسْعَرٍ عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ مِسْعَرٍ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَسُفْيَانُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَرَفَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرٍ فَقَالَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّدَ شُعْبَةُ عَنْ مِسْعَرٍ، فَقَالَ: «وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ»، انْتَهَى.
وأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، إنَّمَا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».
وَرَوَى طَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَلِيلُ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرَامٌ. انْتَهَى.
أَحَادِيثُ الْبَابِ:
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ لِأَصْحَابِنَا بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْيَمَانِ الْعِجْلِيّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَطِشَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنْ السِّقَايَةِ، فَقَطَّبَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، عَلَيَّ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ»، انْتَهَى.
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ انْفَرَدَ بِهِ، دُونَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ، وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ، كَثِيرُ الْخَطَإِ، رَوَاهُ الْأَشْجَعِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ، قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَبِيذٍ»، نَحْوُ هَذَا مُرْسَلٌ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، فَعَلَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ هَذَا لَا يَصِحُّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ: أَخْطَأَ ابْنُ يَمَانٍ فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا ذَاكَرَهُمْ سُفْيَانُ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ مُرْسَلًا، فَأَدْخَلَ ابْنُ يَمَانٍ حَدِيثًا فِي حَدِيثٍ، وَالْكَلْبِيُّ لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.
وَبِحَدِيثٍ آخَرَ: أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «رَأَيْت رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ إلَيْهِ قَدَحًا فِيهِ نَبِيذٌ فَوَجَدَهُ شَدِيدًا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَعَادَ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْقَدَحَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى فِيهِ، فَقَطَّبَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ آخَرَ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةُ، فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ» قَالَ النَّسَائِيُّ: وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، خِلَافُ هَذَا، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثَ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَالْعَدَالَةِ الْمَشْهُورُونَ بِصِحَّةِ النَّقْلِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَقُومُ مَقَامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ شَيْخٌ مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ يُعْرَفُ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَافِعٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، اخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ، وَاسْمِ أَبِيهِ، فَقِيلَ: هَكَذَا، وَقِيلَ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَقِيلَ: مَالِكُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، انْتَهَى.
وَبِحَدِيثٍ آخَر: أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ، وَلَا تَسْكَرُوا»، قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، غَلِطَ فِيهِ أَبُو الْأَحْوَصِ سَلَّامٍ بْنُ سُلَيْمٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ سِمَاكٍ، وَسِمَاكٌ كَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كَانَ أَبُو الْأَحْوَصِ يُخْطِئُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، خَالَفَهُ شَرِيكٌ فِي إسْنَادِهِ، وَلَفْظِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ»، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَهَمَ أَبُو الْأَحْوَصِ فَقَالَ: عَنْ سِمَاكٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، فَقَلَبَ مِنْ الْإِسْنَادِ مَوْضِعًا، وَصَحَّفَ مَوْضِعًا، أَمَّا الْقَلْبُ، فَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، أَرَادَ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، ثُمَّ احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ: ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، فَقَلَبَ الْإِسْنَادَ بِأَسْرِهِ، وَأَفْحَشُ مِنْ ذَلِكَ تَصْحِيفُهُ لِمَتْنِهِ: «اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَسْكَرُوا»، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبُو سِنَانٍ ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَزُبَيْدٌ الْيَامِيُّ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، وَسِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ سُبَيْعٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَسَلَمَةُ بْنُ كَهَيْلٍ، كُلُّهُمْ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا»، وَفِي حَدِيثِ بَعْضِهِمْ: «وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ»، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: وَلَا تَسْكَرُوا، فَقَدْ بَانَ وَهْمُ أَبِي الْأَحْوَصِ، مِنْ اتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: حَدِيثُ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ خَطَأُ الْإِسْنَادِ، وَالْكَلَامِ، أَمَّا الْإِسْنَادُ، فَإِنَّ شَرِيكًا، وَأَيُّوبَ، وَمُحَمَّدًا ابْنَيْ جَابِرٍ رَوَوْهُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ: «انْتَبِذُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا»، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَكَذَلِكَ أَقُولُ، هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، انْتَهَى.
وَبِحَدِيثٍ آخَرَ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ بَهْرَامَ ثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا شَرَابًا لَنَا، أَفَلَا نَسْقِيك مِنْهُ؟ قَالَ: بَلَى، فَأُتِيَ بِقَعْبٍ، أَوْ قَدَحٍ فِيهِ نَبِيذٌ، فَلَمَّا أَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَّبَهُ إلَى فِيهِ، قَطَّبَ، ثُمَّ دَعَا الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: خُذْهُ فَأَهْرِقْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا شَرَابُنَا، إنْ كَانَ حَرَامًا لَمْ نَشْرَبْهُ، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، وَسَقَى، وَقَالَ: إذَا كَانَ هَكَذَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا»، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: تَفَرَّدَ بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ بَهْرَامَ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ: «فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَلَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ» وَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ، فَكَانَ نَاسِخًا لَهُ وَإِنَّمَا يُنْتَبَذُ فِيهِ بَعْدَ تَطْهِيرِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يُغْسَلُ ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يُمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْعِيَةِ «فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ، وَلَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ»، وَقَالَهُ بَعْدَ مَا أَخْبَرَ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ.
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأَدَمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا»، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ، وَأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، انْتَهَى.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، لَمْ يُسَمِّهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي: صَحِيحِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ نَبِيذِ الْأَوْعِيَةِ، أَلَا وَإِنَّ وِعَاءً لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ حَلَّتْ، سَوَاءٌ صَارَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَيْءٍ يُطْرَحُ فِيهَا وَلَا يُكْرَهُ تَخْلِيلُهَا).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ بِهِ إنْ كَانَ التَّخْلِيلُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ فَلَهُ فِي الْخَلِّ الْحَاصِلِ بِهِ قَوْلَانِ، لَهُ أَنَّ فِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابًا مِنْ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ، وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِنَابِ يُنَافِيهِ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ يَزُولُ الْوَصْفُ الْمُفْسِدُ، وَتَثْبُتُ صِفَةُ الصَّلَاحِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ، وَكَذَا الصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ اعْتِبَارًا بِالْمُتَخَلِّلِ بِنَفْسِهِ وَبِالدِّبَاغِ وَالِاقْتِرَابِ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ، فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الثَّانِي فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَإِذَا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا يُطَهِّرُ مَا يُوَازِيهَا مِنْ الْإِنَاءِ، فَأَمَّا أَعْلَاهُ وَهُوَ الَّذِي نَقَصَ مِنْهُ الْخَمْرُ قِيلَ: يَطْهُرُ تَبَعًا وَقِيلَ لَا يَطْهُرُ، لِأَنَّهُ خَمْرٌ يَابِسٌ إلَّا إذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ فَيَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ وَكَذَا إذَا صُبَّ فِيهِ الْخَمْرُ ثُمَّ مُلِئَ خَلًّا يَطْهُرُ فِي الْحَالِ عَلَى مَا قَالُوا.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَيْمَنَ.
فَحَدِيثُ جَابِرٍ: رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ فَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ جَابِرٍ، وَالْبَاقُونَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ»، انْتَهَى.
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي الْوَلِيمَةِ، وَالْبَاقُونَ فِي الْأَطْعِمَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ: فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ»، انْتَهَى.
وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، إلَّا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، نِعْمَ الْأَدَمُ، أَوْ الْإِدَامُ الْخَلُّ، وَفِي لَفْظٍ: نِعْمَ الْأَدَمُ الْخَلُّ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ: فَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْفَضَائِلِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ آكُلُهُ؟ وَكَانَ جَائِعًا، فَقُلْت: إنَّ عِنْدِي لَكِسْرَةً يَابِسَةً، وَأَنَا أَسْتَحْيِي أَنْ أُقَرِّبَهَا إلَيْك، فَقَالَ: هَلُمِّيهَا، فَكَسَرْتُهَا، وَنَثَرْتُ عَلَيْهَا الْمِلْحَ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ إدَامٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدِي إلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ: هَلُمِّيهِ، فَلَمَّا جِئْتُهُ بِهِ صَبَّهُ عَلَى طَعَامِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، يَا أُمَّ هَانِئٍ لَا يَفْقَرُ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَيْمَنَ: فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «نَزَلَ بِجَابِرٍ ضَيْفٌ، فَجَاءَهُمْ بِخُبْزٍ وَخَلٍّ، فَقَالَ: كُلُوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، هَلَاكٌ بِالْقَوْمِ أَنْ يَحْتَقِرُوا مَا قُدِّمَ إلَيْهِمْ، وَهَلَاكٌ بِالرَّجُلِ أَنْ يَحْتَقِرَ مَا فِي بَيْتِهِ، يُقَدِّمُهُ لِأَصْحَابِهِ»، انْتَهَى أَحَادِيثُ الْبَابِ:
أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا كَانَتْ لَهَا شَاةٌ تَحْتَلِبُهَا، فَفَقَدَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا فَعَلَتْ الشَّاةُ؟ قَالُوا: مَاتَتْ، قَالَ: أَفَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ فَقُلْنَا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ دِبَاغَهَا يُحِلُّهُ، كَمَا يُحِلُّ خَلٌ الْخَمْرَ» انْتَهَى.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، يَرْوِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَحَادِيثَ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: «خَيْرُ خَلِّكُمْ، خَلُّ خَمْرِكُمْ»، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» تَفَرَّدَ بِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمُّونَ خَلَّ الْعِنَبِ خَلَّ الْخَمْرِ، قَالَ: وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَخَلَّلَ بِنَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا حَدِيثُ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، انْتَهَى أَحَادِيثُ الْخُصُومِ: وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَنْعِ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَّخَذُ خَلًّا؟ قَالَ: لَا»، انْتَهَى.
وأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، قَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ: فَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا»، انْتَهَى.
قَالُوا: فَلَوْ كَانَ التَّخْلِيلُ جَائِزًا لَكَانَ فِيهِ تَضْيِيعُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَوَجَبَ فِيهِ الضَّمَانُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَرَاقُوهَا حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ التَّحْرِيمِ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ، فَلَوْ جَازَ التَّخْلِيلُ لَنَبَّهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا نَبَّهَ أَهْلَ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ عَلَى دِبَاغِهَا، وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي سُؤْرِ الْكَلْبِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الْأَمْرُ بِكَسْرِ الدِّنَانِ، وَتَقْطِيعِ الزِّقَاقِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى ثَنَا مُسَدَّدٌ ثَنَا مُعْتَمِرٌ ثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اشْتَرَيْت خَمْرًا لِأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي، فَقَالَ: أَهْرِقْ الْخَمْرَ، وَكَسِّرْ الدِّنَانَ»، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقَّ زِقَاقَ الْخَمْرِ بِيَدِهِ فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي التَّغْلِيظِ، لِأَنَّ فِيهِ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ إرَاقَةُ الدِّنَانِ، وَالزِّقَاقِ، وَتَطْهِيرُهَا، وَلَكِنْ قَصَدَ بِإِتْلَافِهَا التَّشْدِيدَ، لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الرَّدْعِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَقَ بَيْتَ خَمَّارٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ حَرَّقَ بَيْتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ حَانُوتًا لِشَرَابٍ، قَالَ: فَقَدْ رَأَيْته يَلْتَهِبُ نَارًا، انْتَهَى.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوَّضَ الْأَيْتَامَ عَنْ خَمْرِهِمْ مَالًا»، كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكُوفِيُّ ثَنَا يَعْقُوبُ الْعَمِّيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ عَنْ جَارِيَةَ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ قَالَ: «إذَا أَتَانَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ فَأْتِنَا، نُعَوِّضْ أَيْتَامَك مَالَهُمْ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ)، لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَاوِيَ بِهِ جُرْحًا أَوْ دَبْرَةَ دَابَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْقِيَ ذِمِّيًّا، وَلَا أَنْ يَسْقِيَ صَبِيًّا لِلتَّدَاوِي وَالْوَبَالُ عَلَى مَنْ سَقَاهُ وَكَذَا لَا يَسْقِيهَا الدَّوَابَّ، وَقِيلَ: لَا تُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَيْهَا.
أَمَّا إذَا قُيِّدَتْ إلَى الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ، وَلَوْ أَلْقَى الدُّرْدِيَّ فِي الْخَلِّ لَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا لَكِنْ يُبَاحُ حَمْلُ الْخَلِّ إلَيْهِ لَا عَكْسُهُ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ: (وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ) أَيْ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ (إنْ لَمْ يَسْكَرْ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحَدُّ، لِأَنَّهُ شَرِبَ جُزْءًا مِنْ الْخَمْرِ، وَلَنَا أَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ النُّبُوَّةِ عَنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَلَا حَدَّ فِيهَا إلَّا بِالسُّكْرِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الثُّفْلُ فَصَارَ كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ بِالِامْتِزَاجِ (وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ وَإِقْطَارُهَا فِي الْإِحْلِيلِ)، لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِعَدَمِ الشُّرْبِ وَهُوَ السَّبَبُ، وَلَوْ جُعِلَ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ لَا تُؤْكَلُ لِتَنَجُّسِهَا بِهَا، وَلَا حَدَّ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّبْخُ (وَيُكْرَهُ أَكْلُ خُبْزٍ عُجِنَ عَجِينُهُ بِالْخَمْرِ) لِقِيَامِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ.